والآن نريد أن نرد على المرجئة بإبطال الترادف بين التصديق والإيمان في المعنى، وواضح أننا جميعاً نشكوا ونعاني مشكلة في الرسائل الجامعية وفي الكتابات وخطب الجمعة، فلا نسمع خطبة أو محاضرة إلا ونلاحظ الضعف في الإلقاء الذي قل من يتقنه، ونجد كذلك كثرة الأخطاء اللغوية التي لا تليق بمن هم في مثل هذه المنزلة، وهذا من أوجه الخلل في شباب الصحوة المعاصرة، وإذا ضعفنا في اللغة فإننا نضعف بطبيعة الحال في فهم القرآن وفي السنة وفي الاستنباط، ويتبع ذلك أمور كثيرة؛ ولذلك تجد أن الشباب يحرصون في كتبهم أو في خطبهم أو في رسائلهم على النقل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفهموا ويستنبطوا ويقارنوا، خصوصاً عندما يحققون مخطوطة تجدهم يفرحون بها؛ لأنها ترجعهم إلى الأصل كالتقريب والتهذيب، فكلها إحالات إلى الغير، مع أننا بحاجة إلى أن نأخذ موضوعاً ونستنبط ونناقش ونعطي فكرة جديدة، وإن كنا لا نثق في الكل للأسف، فليس كل أحد يجيد ذلك، وبالتالي تكون الصحوة هشة، وتكون الدفعات التي تتخرج من حلقات العلم أشبه ما تكون بنسخ عن الشيخ، وليس لديها تجديد ولا يوجد عندها إبداع، وليس عندها استنباط؛ لأنها تعودت أن تسمع فقط.
وفي نفي الترادف من حيث المعنى يقول الشيخ رحمه الله: (الثاني: أنه ليس مرادفاً -يعني الإيمان- للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت) وكلمة صدقت في لغة تقال لكل مخبر مصدق سواء أخبر عن مشاهدة أو عن أمر غيبي لا يعلم إلا من طريق المخبر (كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، ولم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة كقوله طلعت الشمس وغربت أنه يقال: آمناه) وإنما يقال: آمنا له؛ لأنه من ناحية اللغة خطأ في المعنى؛ لأنه أخبرك عن شيء مشاهد كما أن الشهود هم من شهدوا في محكمة أو في مكان ما، والقاضي كل من حكم بين اثنين وإن لم يكن في محكمة، والبعض ربما يقول الحمد لله الذي لم يبتلى بالقضاء، وهو كل يوم في المسجد يقضي في مشاكل الناس، بين العلماء أحياناً في مسائل علمية خلافية، فهذا قاضٍ؛ لأنه حكم بين اثنين، فاتقوا الله في القضاء.
فكل من الشهود والقضاة يقال: صدقناهم لا آمنا لهم كما قال المؤلف رحمه الله: (الشهود والمحدثون يقال: صدقناهم ولا يقال آمنا له) فضلاً عن آمناهم، فإذا شهد الشهود إما أن تقول: صدقناهم أو تقول: كذبناهم، يقول: (ولا يقال آمنا لهم، فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ (من آمن له) إلا من هذا النوع) وهو الإخبار عن شيء يؤتمن عليه، فلما قالوا: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] كأن المعنى ليس فقط تشك في كلامنا؛ بل تشك في أمانتنا، ففيها جانب غيب وائتمان.
ثم قال: (والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال: صدق أحدهما صاحبه، ولا يقال: آمن له؛ لأنه لم يكن غائباً عنه ائتمنه عليه؛ ولهذا قال: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]) لأن لوطاً عليه السلام اتبع وانقاد والمناسب لغة أن نقول: (آمن له لوط) أي: انقاد له من الناحية اللغوية، وإلا فلفظ اتبعه أصح من جهة المعنى؛ لأنه يعني: (آمن له) أي: سلم له وانقاد له في إخبار عن غيب، وقال قوم فرعون: (( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ))[المؤمنون:47] وقال: (( آمَنْتُمْ لَهُ ))[طه:71] وقال: (( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ))[التوبة:61] كما في آية التوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يصدقهم فيما أخبروا به، وائتمنهم عليه، فإذا جاء المؤمنون وقالوا وخاصة فيما يتعلق بالمنافقين: يا رسول الله! إن المنافقين فعلوا كذا وكذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يأتمنهم ويصدقهم، فهم أصدق الناس وأعدل الناس وأتقى الناس، فالمنافقون يقولون: (هو أذن) أي: كل من جاءه وقال: فعل المنافقون كذا صدقه، فهو صلى الله عليه وسلم (أذن خير) ليس أذن شر، فهو يؤمن للمؤمنين؛ لأنه ائتمنهم على هذا، فهو صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، فقد ائتمنه الله على هذا الإيمان، وآمن بما جاءه من عند الله، وصدق ما قاله جبريل وما أخبره به عن رب العالمين وائتمنه على ذلك، ثم هو يؤمن للمؤمنين ويأتمنهم ويصدقهم ويقرهم على ما يخبرون وما يقولون، فاللفظ مما غاب عنه هو مأمون عنده على ذلك وهو متضمن التصديق والائتمان والأمانة، أو متضمن معنى التصديق ومعنى الائتمان كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق؛ ولهذا قالوا: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] أي: لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، فالإنسان إذا لم يؤتمن على شيء لم يصدق، وإن كان في الواقع صادقاً؛ لأن يعقوب عليه السلام أول ما خرجوا كان خائفاً، ولذا حذرهم، بل أراد الله تبارك وتعالى أن يلقنهم الحجة أو العذر؛ لأنه قال: (( وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ))[يوسف:13] في حين أنهم ربما يريدون البحث عن الحجة، فإذا بها تكون الذي خاف منه الأب، وهو أكل الذئب ليوسف، فما خاف منه هو الذي وقع؛ ولذلك لا يأمنهم حتى لو كانوا صادقين، فهو لمن يأتمنهم عليه، بل هو في شك منهم، فهم بعدما أخبروه قالوا: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ))[يوسف:17].
وكذلك قول إخوته: (( وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ))[يوسف:81] وهذا الكلام يقوله أحد رجلين: إما رجل قال قولاً أو عمل عملاً وعلم أن الآخر لا يصدقه فيه ولا يأتمنه عليه وقد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً، فقبل أن يأتي بما عنده من عذر، يقول لك: أنا أعرف أنك لا تصدقني، ولا تقبل مني لكن الأمر هو كذا وكذا.
وقول إخوته: (( وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ))[يوسف:81] يقولها دائماً الشاهد الذي يخشى أن ترد شهادته وإن كان محقاً، حتى قال الشعبي : إذا رأيت رجلين خرجا من المحكمة، فقالا: نحن ما شهدنا إلا بالذي علمنا فاعلم أن شهادتهما لم تقبل بل ردت؛ ولذلك تكون حجتهم كحجة إخوة يوسف مع أن إخوة يوسف عليه السلام إنما شهدوا بما علموا؛ لأنهم في الحقيقة لم يصدقوا ما رأوه؛ لأنه استخرج الصواع من رحل أخيه، وهم لم يصدقوا أن يكون الأمر كما ظهر، وأنه سرق، فلما لم يعلموا السر أحالوا إلى أن النقص إنما هو في معلوماتهم.
والمراد من هذا: أن معنى الإيمان يتضمن معنى التصديق والائتمان، فهو لا يكون إلا عن غيب، وعليه فقد عرفنا أن الترادف لغة بين الإيمان والتصديق غير صحيح، وأنهما غير مترادفين لغة ولا معنى؛ لأن الإيمان يكون بالأمر الغائب، وأما التصديق فيكون في الشاهد ويكون في الغائب، والسبب أن الإيمان يتضمن معنى التصديق والائتمان؛ ولذلك نجد من بيان وكمال الشرع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بألفاظ شرعية يصدق بعضها عموماً، والنبي صلى الله عليه وسلم لما عرف المؤمن قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس ) وهنا تظهر علاقة الأمن بالإيمان، فالمجتمع الآمن هو المجتمع المؤمن، ولا يمكن أن يوجد مجتمع غير مؤمن ويكون مجتمعاً آمناً أبداً، مهما كان، فلا بد أن يوجد في أمنه ما يكدره من الداخل أو الخارج، حتى من داخل القلوب والنفوس، أما المجتمع الذي يتحقق له كمال الأمن فهو المجتمع الذي يتحقق له كمال الإيمان، وحقيقة الإيمان هي تحقيق التوحيد والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي ذكره الله تبارك وتعالى بعد مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه حيث قال لهم: (( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[الأنعام:81-82] فهم قوم آمنوا، وزيادة على ذلك أنه لم يشب إيمانهم شائبة من الشرك، والظلم هنا هو الشرك، فهؤلاء لهم الأمن في الدنيا، والطمأنينة من عذاب الله وانتقامه ومقته وغضبه، ولهم كذلك الأمن في الآخرة من النار، وهم مهتدون في الدنيا باتباعهم ما أمر الله، ومهتدون في الآخرة إلى الصراط المستقيم، فلا تزل أقدامهم، بل يصلون بإذن الله إلى الجنة.